Article by Zeina Mansour
هل تحقق الفضائيات… «نبوءة» سعيد عقل؟
بعد نجاح المسلسلات التركية المُدبلجة إلى اللهجة السورية، وانتشار الأعمال البدوية، وانحسار الإنتاجات التاريخية لمصلحة الدراما الاجتماعية… ماذا بقي من الفُصحى على الشاشات العربية؟ زينة منصور
في العدد الثالث من المجلة الفصلية الصادرة عن اتحاد إذاعات الدول العربية، توقَّف الاتحاد عند مسألة «الإنتاج الإعلامي العربي بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى»، في محاولة منه لتسليط الضوء على استبدال اللغة العربية الفصحى باللهجة المحكية، وهي ظاهرةٌ اجتاحت الشاشات والإذاعات العربية في الفترة الأخيرة. هكذا، يبدو أن وسائل الإعلام العربية تأثرت بموجة الإنتاجات الإذاعية والتلفزيونية باللهجة المحكية، على اعتبارها مرآة تعكس الحراك الاجتماعي داخل المجتمعات، ومن ثم تُصدِّره إلى خارج الحدود. غير أنه غاب عن الأذهان حجم التراجع الذي لحق بالثقافة العربية، حالما تقدمت هذه اللهجات على حساب العربية الفصحى التي صدّرت حرفها إلى بلاد الأناضول وفارس وآسيا الوسطى (*). فهل صحّت نبوءة الشاعر سعيد عقل يوم توقع اندثار اللغة العربية لمصلحة اللهجات المحكية، إذ يختفي الحرف العربي ليُستبدل بالحرف اللاتيني كما حدث في تركيا بعد أتاتوررك؟ وهل ما تعيشه الأجيال العربية اليوم من تجربة الكتابة الإلكترونية بالحرف اللاتيني تأكيد لهذه الفكرة؟
لم يشهد الإعلام العربي المرئي والمسموع مجافاةً للغة العربية الفصحى، كما يحدث اليوم. وبات سلطان اللغة الفصحى يتراجع لتحلّ مكانه سلاطين اللهجات المحلية في الإنتاج الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني والإعلاني. هذه اللغة التي جرت دسترتها على اعتبارها اللغة الرسمية للدول العربية، تشهد اندثاراً في ظل إهمالها وعدم تطويرها الإعلامي بطريقة تقرّبها من المشاهدين وتمنع انحسارها بالمؤسسات التربوية والأكاديمية وشريحة المثقفين العرب. ويجوز القول إنه لولا التزام الإعلام الإخباري والمكتوب بهذه اللغة، لكانت على وشك الاختفاء في ظل تراجع حركة التأليف والنشر والطباعة وابتعاد الناس عن القراءة.
وفي غمرة النجاحات لكثير من الإنتاجات التي قدّمت باللهجة المحلية، وآخرها هذا العام المسلسلات التركية المدبلجة إلى السورية ـ وقد أعجبت بعضهم على اعتبارها لهجة الساحل السوري القريبة للغة التركية ـ (علماً أن اللغة العربية تحتلُّ أربعين في المئة من مصطلحاتها)… تجدُ أن الحل الأمثل يبقى برسم الإعلام والمؤسسات التربوية لتطوير هذه اللغة «الإرث»، لتصبح لغة وسطية تحافظ على حضارتها وتتطور مع عصرها و لا تهجره.
فالإنتاج الإعلامي المرئي والإذاعي يشهد منذ أعوام تقدماً ناجحاً، إن كان على مستوى البرامج أو الدراما، إذ إنّ البرامج اللبنانية الناجحة حملت اللهجة اللبنانية على أجنحتها إلى آخر أصقاع الأرض، إضافة إلى الأغنية اللبنانية والمسرح.
وتعرّف الجمهور العربي أخيراً إلى عدد كبير من الأعمال البدوية الناجحة التي قرّبت اللهجة إلى المشاهد العربي منذ مسلسل «نمر بن عدوان» (الصورة)، و«عيون عليا»، و«عودة أبو تايه» واحتلت شأناً مهماً في مساحة الإنتاجات العربية وأنفقت عليها موازنات ضخمة. وتشهد الدراما الخليجية قفزة نوعية فتطرح نفسها على خارطة الإنتاج التلفزيوني العربي. إلا أن ذلك لا يمكن أن يقلل من حجم النجاح الذي لقيه مثلاً برنامج «شاعر المليون» الذي سجل العام الماضي على فضائية «أبو ظبي» نسبة متابعة عالية في الخليج العربي، ما يشير إلى شدة اشتياق الجمهور للاستماع إلى لغته. أما في مسلسل «أسمهان»، فلاحظ المشاهد تنوُّع اللهجات المحكية ما بين السورية والمصرية واللبنانية. ومع ذلك، أشار مثقفون مصريون إلى أن اعتماد الإذاعة والتلفزيون المصري البرمجة بالعامية أدى إلى تراجع ثقافي في المجتمع.
وبالنظر الى الخارطة الدرامية هذا العام، نجد أن المسلسل المنتج باللغة العربية الفصحى شبه مفقود باستثناء «أبو جعفر المنصور». وإذا كانت الدراما السورية بإنتاجاتها التلفزيونية قد حققت اختراقاً كبيراً لدى المشاهد العربي، وبالتالي تمكّنت من نقل لهجة بلادها إلى العالم العربي فإنّه لا يخفى على أحد أن نجاح هذه الدراما يأتي من رحم اللغة الفصحى التي يبرع فيها معظم كتّاب الدراما السوريين. كما أن المراقب لتجربة الاتحاد الأوروبي، يجدُ هذا الحرص الشديد لدى الدول المنضوية في هذه البوتقة على الحفاظ على لغتها وهويتها الثقافية في قالب التنوع الأوروبي… فيما العالم العربي الذي يملك قاعدة مشتركة من اللغة الفصحى الموحدة تتضاءل قاعدته عاماً بعد عام، ولا من يعترض!